شهد مجال البناء في العقود الأخيرة تحوّلاً جذريًا بفضل التقنيات الحديثة التي غيّرت المفاهيم التقليدية رأسًا على عقب فلم يعُد البناء يقتصر على الطوب والإسمنت والجهد اليدوي، بل أصبح يعتمد على أدوات ذكيّة وأنظمة رقمية ومواد مبتكرة، تُسرّع الإنجاز، وتُقلّل التكاليف، وترفع من كفاءة وجودة المشاريع، تقنيات مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد، والطائرات دون طيار (الدرونز)، والذكاء الاصطناعي، والمباني الذكية، باتت تُعيد رسم ملامح المدن وتُمهّد الطريق نحو مستقبل عمرانيّ أكثر استدامة وابتكارًا، في هذا المقال، نستعرض أبرز هذه التقنيات الحديثة التي غيّرت فكرة البناء التقليدية، ونتعرّف على كيفيّة تأثيرها المباشر على طريقة تصميم وتنفيذ المباني في عصرنا الحالي.
1- نمذجة معلومات البناء
نمذجة معلومات البناء هي منهجيّة عمل شاملة تُغيّر طريقة التفكير في المشاريع الإنشائيّة، فهي تُنشئ نموذجًا رقميًا تفصيليًا للمبنى أو الهيكل، يدمج جميع المعلومات ذات الصلة من التصميم المعماري، الهيكل الإنشائيّ، الأنظمة الميكانيكيّة والكهربائيّة وحتى إدارة المرافق بعد الإنتهاء من البناء، فهي تُتيح لجميع المُهندسين، المعماريين، الإنشائيين، المُقاولين، الموردين، والعُملاء العمل على نموذج واحد مُشترك مما يُقلل من الأخطاء الناتجة عن عدم التنسيق ما بين التخصصات، فضلاً عن كونه يُعطي تصورًا واضحًا للمشروع قبل البدء في البناء مما يُساعد في اتخاذ قرارات مُستنيرة وتعديل التصميم بسهولة، بالإضافة إلى ذلك توفّر بياناتٍ دقيقة عن الكميّات والمواصفات لتسهيل تقدير التكاليف وإدارة الميزانيّة.
2- الروبوتات والأتمتة
أصبحت الروبوتات جزءًا مُتزايد الأهميّة في مواقع البناء مُحدثة ثورة في جوانب مُختلفة، على سبيل المثال تتولى الروبوتات مهامًا مُتكررة مثل وضع الطوب أو اللحام أو الحفر، مما يزيد من سرعة التنفيذ ودقته ويُقلل من الأخطاء البشريّة، فضلاً عن ذلك تُستخدم الروبوتات في مهام التشطيب الداخليّة مثل دهان الجُدران وتركيب الأرضيّات بدقة عالية وسرعة فائقة، كما يُمكن إرسال الروبوتات للعمل في بيئات خطرة وصعبة الوصول لحماية العُمال من المخاطر المُحتملة، علاوةً على ذلك تُستخدم الأتمتة والروبوتات بشكلٍ مُكثّف في المصانع لإنتاج وحدات بناء جاهزة يتم تجميعها في الموقع مما يُقلل من وقت التشييد ويُحسّن من الجودة وتقليل النُفايات.
3- الدرونز
أصبحت الطائرات بدون طيّار في الوقت الحالي أداة لا غِنى عنها في إدارة مواقع البناء موفرة رؤى قيمة وسرعة في جمع البيانات، فهي تُستخدم لإجراء مسح شامل للمواقع، إنشاء خرائط ثلاثيّة الأبعاد، جمع بيانات تضاريسيّة بدقة عالية وبوقت وجهد أقل من الطُرق التقليديّة، فضلاً عن ذلك فهي تُستخدم لمُتابعة التقدّم اليوميّ للمشروع، التقاط صور وفيديوهات للمراحل المُختلفة وتحديد أي تأخيرات أو مشاكل مُحتملة، حيث يُمكن للدرونز الوصول إلى الأماكن التي يصعب الوصول إليها لتفتيش الهياكل العامّة أو الخطرة، كما يُمكنه مُراقبة موقع العمل لضمان التزام العمّال بمعايير السلامة وتحديد أي من المخاطر المُحتملة والكشف عن المُتسللين.
4- الواقع الإفتراضيّ والواقع المُعزز
تُقدّم تقنيات الواقع الإفتراضيّ والمُعزز مستويات جديدة من التفاعل والتصوّر في قطاع المُقاولات، حيث يُمكن للعملاء والمُهندسين من التجوّل داخل نموذج المبنى ثُلاثيّ الأبعاد قبل البناء ما يوفّر تجربة غامرة ويُساعد في اتخاذ القرارات التصميميّة وتحديد أي مشاكل مُحتملة مُبكرًا، كما يُتيح لمُديري المشاريع والعُمّال عرض نماذج ثُلاثيّة الأبعاد مُباشرةً على موقع البناء الحقيقيّ باستخدام الأجهزة اللوحيّة أو النظّارات ثُلاثيّة الأبعاد في المواقع النائية أو في المناطق المُتضررة لبناء مأوى بسرعة وفعاليّة.
5- الذكاء الإصطناعيّ وتحليلات البيانات الضخمة
يُعد الذكاء الإصطناعيّة وتحليلات البيانات الضخمة أدوات قوية من شأنها أن تُعزز من قُدرة شركات المُقاولات على اتخاذ قرارات أكثر ذكاءً وكفاءة، إذ يُمكن للذكاء الإصطناعيّ تحليل كميّات هائلة من البيانات التاريخيّة للمشاريع السابقة للتنبؤ بالمخاطر وتحسين الجداول الزمنيّة وتخصيص الموارد بشكلٍ أكثر فعاليّة، كما يُمكن تحليل بيانات السلامة في الموقع وتحديد الأنماط والمخاطر المُحتملة وتقديم تنبيهاتٍ إستباقيّة لمُديري المواقع.
6- إنترنت الأشياء والمُستشعرات الذكيّة
تُحوّل أجهزة إنترنت الأشياء والمُستشعرات الذكيّة مواقع البناء إلى بيئات مُتصلة وذكيّة، حيث تُثبت المُستشعرات على المُعدّات الثقيلة لتتبّع أدائها، استهلاك الوقود، وساعات التشغيل مما يُساعد في الصيانة الوقائيّة وتحسين استخدام الأصول، فضلاً عن ذلك يُمكن للمُستشعرات مُراقبة درجة الحرارة، الرطوبة، جودة الهواء، ومستويات الضوضاء لضمان بيئة عمل آمنة وصحيّة، كما يُمكن للمُستشعرات القابلة للإرتداء مُراقبة صحّة العمّال وسلامتهم وإرسال تنبيهات في حالات الطوارئ.
7- البناء المُستدام والمواد المُبتكرة
أصبحت الإستدامة في الوقت الحالي ضرورة تُساهم في تعزيز مُمارسات البناء المُستدام، من خلال استخدام مواد بناء ذاتيّة الشفاء أو مواد تغيّر خصائصها استجابةً للظروف البيئيّة مثل النوافذ الذكية التي تتحكّم في دخول الضوء والحرارة، فضلاً عن تطوير أنواع من الخرسانة تستخدم مواد مُعاد تدويرها أو تُقلل من انبعاثات الكربون خلال إنتاجها، بالإضافة إلى استخدام الألواح الشمسيّة أو توربينات الرياح الصغيرة لتوليد الطاقة اللازمة لتشغيل موقع البناء.